فصل: التفسير الإشاري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}
قوله تعالى: {إِنَّمَا النسيء}: في {النسِيْء} قولان:
أحدهما: أنه مصدرٌ على فَعِيل مِنْ أَنْسَأ أي أخَّر، كالنذير مِنْ أَنْذَر والنكير من أَنْكر. وهذا ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنه قال: النَّسيء تأخيرُ حرمةِ الشهرِ إلى شهر آخر، وحينئذٍ فالإِخبارُ عنه بقوله: وزيادة واضحٌ لا يَحْتاج إلى إضمار. وقال الطبري: النسيء بالهمز معناه الزيادة. قلت: لأنه تأخير في المدة فيلزمُ منه الزيادة.
الثاني: أنه فَعِيل بمعنى مَفْعول، مِنْ نَسَأه أي أخَّره، فهو منسوءٌ، ثم حُوِّل مفعول إلى فعيل كما حُوِّل مفعول إلى فعيل، وإلى ذلك نحا أبو حاتم والجوهري. وهذا القول رَدَّه الفارسي بأنه يكون المعنى: إنما المؤخَّر زيادة، والمُؤَخَّر الشهر ولا يكون الشهرُ زيادةً في الكفر. وقد أجاب بعضهم عن هذا بأنه على حذف المضاف: إمَّا من الأول أي: إنما إنساءُ المُنْسَأ زيادة في الكفر، وإمَّا من الثاني أي: إنما المُنْسَأ ذو زيادة.
وقرأ الجمهور {النَّسيء} بهمزة بعد الياء.
وقرأ ورش عن نافع {النَّسِيّ} بإبدال الهمزة ياءً وإدغام الياء فيها. ورُويت هذه عن أبي جعفر والزهري وحميد، وذلك كما خَفَّفوا برية وخطية.
وقرأ السلمي وطلحة والأشهب وشبل: {النَّسْء} بإسكان السين. وقرأ مجاهد والسلمي وطلحة أيضًا: {النَّسُوء} بزنة فَعُول بفتح الفاء، وهو التأخير، وفَعول في المصادر قليل، قد تقدَّم منه أُلَيْفاظ في أوائل البقرة، وتقدم في البقرة اشتقاقُ هذه المادة، وهو هنا عبارةٌ عن تأخير بعض الشهور عن بعض قال:
ألَسْنا الناسئينَ على مَعَدٍّ ** شهورَ الحِلِّ نجعلُها حَراما

وقال الآخر:
نَسَؤُوا الشّهور بها وكانوا أهلَها ** مِنْ قبلِكم والعزُّ لم يتحوَّلِ

وقوله: {يُضَلُّ بِهِ} قرأ الأخوان وحفص: {يُضَلُّ} مبنيًا للمفعول، والباقون مبنيًا للفاعل والموصول فاعل به. وقرأ ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب وعمرو بن ميمون: {يُضِلُّ} مبنيًا للفاعل مِنْ أضل. وفي الفاعل وجهان أحدهما: ضمير الباري تعالى أي: يُضِلُّ الله الذين كفروا. والثاني: أن الفاعل {الذين كفروا} وعلى هذا فالمفعول محذوف أي: يُضل الذين كفروا أتباعهم. وقرأ أبو رجاء {يَضَلُّ} بفتح الياء والضاد، وهي مِنْ ضَلِلْت بكسر اللام أضَلُّ بفتحها، والأصل: أَضْلَلُ، فنُقِلت فتحة اللام إلى الضاد لأجل الإِدغام. وقرأ النخعي والحسن في رواية محبوب: {نُضِلُّ} بضم نون العظمة و{الذين} مفعول، وهذه تقوِّي أن الفاعل ضمير الله في قراءة ابن مسعود.
قوله: {يُحِلُّونَهُ} فيه وجهان أحدهما: أن الجملةَ تفسيريةٌ للضلال. والثاني: أنها حاليةٌ.
قوله: {لِّيُوَاطِئُواْ} في هذه اللامِ وجهان: أنها متعلقةٌ بيُحَرِّفونه.
وهذا مقتضى مذهبِ البصريين فإنهم يُعْملون الثاني من المتنازعين. والثاني: أن يتعلَّقَ بيُحِلُّونه، وهذا مقتضى مذهب الكوفيين فإنهم يُعْملون الأول لسَبْقِه. وقولُ مَنْ قال إنها متعلقةٌ بالفعلين معًا، فإنما يعني من حيث المعنى لا اللفظ.
وقرأ أبو جعفر {ليوطِيُوا} بكسر الطاء وضم الياء الصريحة. والصحيح أنه يَنْبغي أن يقرأ بضم الطاء وحذف الياء؛ لأنه لمَّا أبدل الهمزةَ ياءً استثقل الضمةَ عليها فحذفها، فالتقى ساكنان، فحُذِفَت الياء وضُمَّت الطاء لتجانِسَ الواو.
والمُواطأة: المُوافَقَةُ والاجتماع يقال: تواطَؤُوا على كذا أي: اجتمعوا عليه، كأنه كل واحد يطأ حيث يطأ الآخر، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً} [المزمل: 6]، وقرئ وِطاءً. وسيأتي إن شاء الله.
وقرأ الزهري {ليواطِيُّوا} بتشديدِ الياء. هكذا ترجموا قراءتَه وهي مشكلةٌ حتى قال بعضهم: فإن لم يُرِدْ به شدة بيان الياء وتخليصها مِنَ الهمز دون التضعيف، فلا أعرف وجهها. وهو كما قال.
قوله: {زُيِّنَ} الجمهورُ على {زُيِّن} مبنيًا للمفعول، والفاعلُ المحذوف هو الشيطان. وقرأ زيد بن علي ببنائه للفاعل وهو الشيطان أيضًا، و{سوء} مفعوله. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)}
الدِّينُ ملاحظةُ الأمر ومجانَبَةُ الوِزر وتركُ التقدم بين يدي الله سبحانه- في جميع أحكام الشرع، فالآجالُ في الطاعاتِ مضروبة، والتوفيقُ في عرفانه متَّبع، والصلاح في الأمور بالإقامة على نعت العبودية؛ فالشهرُ ما سمَّاه الله شهرًا، والعامُ والحوْلُ ما أعْلمَ الخَلْقَ أنه قَدْرُ ما بَيَّنه شرعًا. اهـ.

.التفسير الإشاري:

قال نظام الدين النيسابوري:
التأويل: {قاتلوا} النفوس {الذين لا يؤمنون بالله} بتعبده {ولا باليوم الآخر} أي لا يعملون للآخرة {ولا يحرمون ما حرم الله} من حب الدنيا فإنها رأس كل خطيئة {وحرم} {رسوله} على نفسه {ولا يدينون دين الحق} أي لا يطلبون الحق {من الذين أوتوا الكتاب} من النفوس الملهمة بالواردات الربانية {حتى يعطوا الجزية} وهي معاملتها على خلاف طبعها {عن يد} عن حكم صاحب قوة وهو الشارع وقالت يهود- النفس- أن عزير- القلب- {ابن الله} وذلك إذا انعكس عن مرآه القلب آثار أنوار الواردات إلى النفس المظلمة فتنورت، كما أن اليهود لما سمعت التوراة والعلوم التي هم عنها بمعزل من عزير قالوا إنه ابن الله (وقالت نصارى) القلوب إن مسيح الروح ابن الله، وذلك أن الروح ربما يتجلى للقلب في صفة الربوبية والخلافة مقترنًا بصفة إبداع الحق وبتشريف إضافة.
{ونفخت فيه من روحي} [الحجر: 29] {يضاهئون قول الذين كفروا من قبل} وهم النفوس الكافرة الذين {اتخذوا أحبارهم} أي قلوبهم {ورهبانهم} أي أرواحهم {أربابًا} والمسيح ابن مريم وهو الخفي وذلك أن الخفي هو أول مظهر للفيض الإلهي الذي منه التربية ثم الروح نظرها إلى أن ترى التربية من القلب، ثم يرتقي نظرها إلى أن ترى الكل من الحق فإن رؤية ذلك من شأن القلب كقوله: {ما كذب الفؤاد ما رأى} [النجم: 11] {يريدون} أي النفوس {أن يطفئوا نور الله} الذي رش على الأرواح في بدء الخلق {بأفواههم} أي بأفواه استيفاء الشهوات واللذات الجسمانيات {هو الذي أرسل رسوله} وهو النور المرشش بالهداية إلى الله وطلب الحق {ليظهره} في طلب الحق على طلب غيره {إن كثيرًا} من أحبار القلوب ورهبان الأرواح {ليأكلون} أي يتمتعون بحظوظ النفس وهواها {والذين يكنزون الذهب والفضة} حرصًا وطمعًا في الاستمتاع بحظوظ النفوس {ولا ينفقونها في سبيل الله} ليقطعوا مسافة البعد عن الله بقدمى تلك الدنيا وقمع الهوى {يحمى عليها في نار جهنم} الحرص {فتكوى بها} جباه القلوب والأرواح لأنهم امتنعوا بذلك عن التوجه إلى الحق {وجنوبهم} حيث لا تتجافى جنوبهم عن مضاجع المكونات {وظهورهم} حيث لم يقضوا حق التواضع والخشوع فيقال لهم {هذا} الذي أصابكم من ألم الحرمان وعذاب القطيعة بسبب {ما كنزتم} {فذوقوا} الآن ألم كي نار الحرص لأنكم لم تذوقوه في الدنيا حيث كنتم في منام الغفلة {منها أربعة حرم} فيه إشارة إلى أن الطالب المضطر إلى تحصيل قوت نفسه وعياله يجب أن يجعل أوقات عمره أثلاثًا: ثلثًا لطلب المعاش وترتيب مصالح الدنيا، وثلثًا للطاعات التي ينتفع بها في الآخرة، وثلثًا من ذلك حرام أن يقع في خاطره غير المولى. ومن استغنى عن الموانع فيحرم عليه صرف لحظة في غير طلب الحق وإلى هذا المعنى أشار بقوله: {ذلك الدين القيم} وفيه تنبيه على أن من لم يكن هكذا كان في سلوكه اعوجاج. ثم ذكر أن من شأن النفوس المشركة أنها إن أقبلت على طاعة أخرتها عن وقتها وهو النسيء الموجب لازدياد كفرها لأنها قد خالفت الشرع من حيث تركها الطاعة باختيارها، ومن حيث إنها اعتقدت أن ذلك التأخير مما لا بأس به. اهـ.

.تفسير الآية رقم (38):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أوعز سبحانه في أمر الجهاد، وأزاح جميع عللهم وبين أن حسنه لا يختص به شهر دون شهر وأن بعضهم كان يحل لهم ويحرم فيتبعونه بما يؤدي إلى تحريم الشهر الحلال وتحليل الشهر الحرام بالقتال فيه، عاتبهم الله سبحانه على تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الآمر لهم بالنفر في غزوة تبوك عن أمره سبحانه، وكان ابتداؤها في شهر رجب سنة تسع، فقال تعالى على سبيل الاستعطاف والتذكير بنعمة الإيمان بعد ختم التي قبلها بأنه لا يهدي الكافرين- الذي يعم الحرب وغيره الموجب للجرأة عليهم لأن لا هداية له أعمى، والأعمى لا يخشى: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك {ما لكم} أي ما الذي يحصل لكم في أنكم {إذا قيل لكم} أي من أيّ قائل كان {انفروا} أي اخرجوا مسرعين بجد ونشاط جماعات ووحدانًا إمدادًا لحزب الله ونصرًا لدينه تصديقًا لدعواكم الإيمان، والنفر: مفارقة مكان إلى مكان لأمر هاج على ذلك {في سبيل الله} أي بسبب تسهيل الطريق إلى الملك الذي له جميع صفات الكمال، وقال ابو حيان: بني قيل للمفعول والقائل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر إغلاظًا ومخاشنة لهم وصونًا لذكره إذ أخلد إلى الهوينا والدعة من أخلد وخالف أمره- انتهى.
{اثاقلتم} أي تثاقلتم تثاقلًا عظيمًا، وفيه ما لم يذكروا له سببًا ظاهرًا بما أشار إليه الإدغام إخلادًا وميلًا {إلى الأرض} أي لبرد ظلالها وطيب هوائها ونضج ثمارها، فكنتم أرضيين في سفول الهمم، لا سمائيين بطهارة الشيم.
ولما لم يكن- في الأسباب التي تقدم أنها كانت تحمل على التباطؤ عن الجهاد- ما يحتمل القيام بهم في هذه الغزوة إلا الخوف من القتل والميل إلى الأموال الحاضرة وثوقًا بها والإعراض عن الغنى الموعود به الذي ربما يلزم من الإعراض عنه التكذيب، فيؤدي إلى خسارة الآخر، هذا مع ما يلزم على ذلك- ولابد- من الزهد في الأجر المثمر لسعادة العقبى بهذا الشيء الخسيس؛ قال مبينًا خسة ما أخلدوا إليه تزهيدًا فيه وشرف ما أعرضوا عنه ترغيبًا منبهًا على أن ترك الخير الكثير لأجل الشر اليسير شر عظيم منكرًا على من تثاقل موبخًا لهم: {أرضيتم بالحياة الدنيا} أي بالخفض والدعة في الدار الدنية الغارة {من الآخرة} أي الفاخرة الباقية؛ قال أبو حيان: ومن تظافرت أقوال المفسرين أنها بمعنى بدل، وأصحابنا لا يثبتون أن من تكون للبدل- انتهى.
والذي يظهر لي أنهم لم يريدوا أنها موضوعة للبدل، بل إنه يطلق عليها لما قد يلزمها في مثل هذه العبارة من ترك ما بعدها لما قبلها فإنها لابتداء الغاية، فإذا قلت: رضيت بكذا من زيد، كان المعنى أنك أخذت ذلك أخذًا مبتدئًا منه غير ملتفت إلى ما عداه، فكأنك جعلت ذلك بدل كل شيء يقدر أنه ينالك منه من غير ذلك المأخوذ.
ولما كانوا قد أعطوا الآخرة على الأتباع فاستبدلوا به الامتناع، كان إقبالهم على الدنيا كأنه مبتدئ مما كانوا قد توطنوه من الآخرة مع الإعراض عنها، فكأنه قيل: أرضيتم بالميل إلى الدنيا من الآخرة؟ ويؤيد ما فهمته أن العلامة علم الدين أبا محمد القاسم بن الموفق الأندلسي ذكر في شرح الجزولية انهم عدوا لـ {من} خمسة معان كلها ترجع إلى ابتداء الغاية عند المحققين، وبين كيفية ذلك حتى البيانية، فمعنى {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} [الحج: 30] الذي ابتداؤه من الأوثان، لأن الرجس جامع للأوثان وغيرها.
ولما كان الاستفهام إنكاريًا كان معناه النهي، فكان تقدير: لا ترضوا بها فإن ذلك أسفه رأي وأفسده! فقال تعالى معللًا لهذا النهي: {فما} أي بسبب أنه ما {متاع الحياة الدنيا في} أي مغمورًا في جنب {الآخرة إلا قليل} والذي يندب هم المتجر ويدعي البصر به ويحاذر الخلل فيه يعد فاعل ذلك سفيهًا. اهـ.